فصل: تفسير الآيات (12- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير سورة غافر:

وهي مكية.
روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحواميم ديباج القرآن».
ومعنى هذه العبارة أنها خلت من الأحكام وقصرت على المواعظ والزجر وطرق الآخرة محضا.
وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ الحواميم».
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)}
قوله تعالى: {حم}: تقدَّم القولُ في الحُرُوفِ المقطَّعَةِ، ويَخْتَصُّ هذا المَوْضِعُ بقولٍ آخرَ قاله الضَّحَّاكُ والكسائي؛ أنَّ {حم} هِجَاءُ حُمَّ بضم الحاء وتشديد الميم المفتوحةِ؛ كأنه يقولُ: حُمَّ الأَمْرُ وَوَقَعَ تنزيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ، وقال ابن عَبَّاسٍ: الر، وحم، ون، هي حروفُ الرحمن مقطَّعةٌ في سُورٍ، وسأَل أعرابيٌّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن حمما هو؟ فقال: بَدْءُ أَسْمَاءٍ، وَفَواتِحُ سُوَرٍ، و{ذِى الطول} معناه: ذي التَطَوُّلِ والمَنِّ بكلِّ نعمةٍ، فَلاَ خَيْرَ إلاَّ مِنْهُ سبحانَهُ، فَتَرَتَّبَ في هذه الآيةِ وعيدٌ بَيْنَ وَعْدَيْنِ، وهكذا رحمتُهُ سبحانه تَغْلِبُ غَضَبَهُ، قال * ع *: سمعتُ هذه النَّزْعَةَ مِنْ أبي رحمه اللَّه وهُوَ نحوٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ رضي اللَّه عنه: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ * ت *: هو حديثٌ، والطَّوْلُ: الإنْعَامُ، وعبارةُ البخاريِّ: الطَّوْلُ: التَّفَضُّلُ، وَحَكَى الثعلبيُّ عَنْ أَهْلِ الإشَارَةِ أنَّه تعالى: غافرُ الذَّنْبِ فَضْلاً، وقابِلُ التَّوْبِ وَعْداً، شَدِيدُ العقابِ عَدْلاً، لا إلَهَ إلاَّ هو إليه المصيرُ فَرْداً، وقال ابن عبَّاس: الطَّولُ: السَّعَةُ، والغِنى، وتقلب الذين كفروا في البلاد: عبارَةٌ عَنْ تَمَتُّعِهِمْ بالمَسَاكِنِ والمَزَارِعِ والأَسْفَارِ وغَيْرِ ذَلِكَ، {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي: لِيُهْلِكُوهُ، كما قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ}، والعربُ تقولُ لِلْقَتِيلِ: أُخِذَ، ولِلأَسيرِ كَذَلِكَ؛ قال قتادة: {لِيَأْخُذُوهُ} مَعْنَاهُ: لِيَقْتُلُوهُ، و{لِيُدْحِضُواْ} معناهُ ليُزْلِقُوا ويَذْهَبُوا، والمَدْحَضَةُ: المَزَلَّةُ، والمَزْلَقَةُ.
وقوله: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}: تَعْجِيبٌ وتعظيمٌ، وليس باسْتفهامٍ عن كيفيَّة وقوع الأَمْرِ.

.تفسير الآيات (6- 9):

{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}
وقوله سبحانه: {وكذلك حَقَّتْ كلمات رَبِّكَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} الآية، في مصحفِ ابن مسعودٍ {وَكَذَلِكَ سَبَقَتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} والمعنى: وَكَمَا أَخَذَتْ أولئك المَذْكُورِينَ فَأَهْلَكَتْهُمْ، فكذلك حَقَّتْ كلماتي على جميعِ الكُفَّارِ، مَنْ تَقَدَّمَ منْهُمْ ومَنْ تَأَخَّرَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّار.
وقوله تعالى: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ...} الآية، أَخْبَرَ اللَّهُ سبحانَهُ بِخَبَرٍ يتضمَّنُ تَشْرِيفَ المؤمنِينَ، ويُعظِّمُ الرَّجاءَ لهم، وهو أنَّ الملائِكَةَ الحَامِلِينَ لِلْعَرْشِ والذينَ حَوْلَ العَرْشِ؛ وهؤلاءِ أفضلُ الملائِكَةِ يستغْفِرُونَ للمؤمنين، ويسألون اللَّهَ لَهُمُ الرَّحْمَةَ والجَنَّةَ؛ وهذا معنى قوله تعالى في غير هذه الآية، {كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً} [الفرقان: 16] أي سأَلَتْهُ الملائكةُ، قال * ع *: وفَسَّرَ في هذه الآية المُجْمَلَ الذي في قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرض} [الشورى: 5]؛ لأَنَّ الملائِكَةَ لا تستغفرُ لكافرٍ، وقد يجوز أن يُقَال: إنَّ استغفارَهم لهمُ بمعنى طَلَبِ هدايتِهم، وبلغني أنَّ رجُلاً قال لبعض الصالحين: ادع لي، واستغفر لي، فقالَ لَهُ: تُبْ، واتبع سَبِيلَ اللَّهِ يَسْتَغْفِرْ لَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، وتلا هذه الآيَةَ، وقال مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ: وَجَدْنَا أَنْصَحَ الْعِبَادِ لِلْعِبَادِ المَلاَئِكَةَ، وأغَشَّ العِبَادِ لِلْعِبَادِ الشَّياطِينَ، وتلا هذه الآية، وروى جابرٌ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أُذِنَ لي أَن أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ حَمَلَةِ العَرْشِ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَعاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمائَةِ سَنَةٍ، قال الداوُوديُّ: وعن هارونَ بْنِ ريابٍ قال: حملةُ العَرْش ثمانيةٌ يَتَجاوبُونَ بصوْتٍ حَسَنِ، فأرْبَعَةٌ يقولونَ: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ على حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وأَرْبَعَةٌ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ وبِحَمْدِكَ على عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ»، انتهى. وروى أبو داودَ عن جَابِرِ بن عبدِ اللَّه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «أُذِنَ لي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلكٍ مِنْ مَلاَئِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ العَرْشِ، إنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةَ سَبْعِمَائَةِ عَامٍ»، انتهى، وقد تقدَّم.
وقولهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَئ رَّحْمَةً وَعِلْماً} معناه: وسِعتْ رَحْمَتُكَ وَعِلْمُكَ كُلَّ شَيْءٍ.
وقوله: {ومَنْ صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم} رُوِيَ عن سعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ في ذلك: أنَّ الرَّجُلَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَبل قَرَابَتِهِ، فَيَقُولُ: أَيْنَ أَبِي؟ أَيْنَ أُمِّي، أَيْنَ ابني، أَيْنَ زَوْجِي، فيلحقونَ بِهِ؛ لِصَلاَحِهِمْ ولتنبيههِ عليهم، وطَلَبِهِ إيَّاهُمْ، وهذه دَعْوَةُ المَلاَئِكَةِ.
وقولهم: {وَقِهِمُ السيئات} معناه: اجْعَلْ لهم وِقَايَةً تقيهمُ السيئاتِ، واللَّفْظُ يحتملُ أَنْ يكونَ الدعاءُ في أن يدفعَ اللَّهُ عنهم أنْفُسَ السيئاتِ حتى لاَ يَنَالَهُمْ عذابٌ مِن أَجْلِهَا، ويحتملُ أَنْ يكونَ الدعاءُ في دَفْعِ العَذَابِ اللاَّحِقِ من السيئاتِ، فيكونُ في اللَّفْظِ على هذا حذْفُ مضافٍ، كأنه قال: وقِهِمْ جَزَاءَ السيِّئاتِ، قال الفَخْرُ: وقوله تعالى: {وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} يعني: من تِقِ السيئاتِ في الدنيا، فَقَدْ رَحِمْتَهُ في يوم القيامةِ، انتهى، وهذا رَاجِعٌ إلى التأويل الأول.

.تفسير الآيات (10- 11):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)}
وقوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ...} الآية، رُوِي أنَّ هذه الحالَ تَكُونُ للكُفَّارِ عِنْدَ دخولِهِمُ النَّارَ؛ فإنَّهم إذا دَخَلُوا فيها مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ وتُنَادِيهِمْ مَلاَئِكَةُ العَذَابِ على جهة التوبيخِ: لَمَقْتُ اللَّهِ إيَّاكُمْ في الدُّنْيَا؛ إذْ كُنْتُمْ تُدْعَوْنَ إلى الإيمانِ فتكفرونَ، أكْبَرُ مِنْ مقتِكُمْ أنْفُسَكُمْ اليَوْمَ، هذا هو معنى الآية؛ وبه فسَّر مجاهد وقتادة وابن زيد، واللامُ في قوله: {لَمَقْتُ} يحتملُ أنْ تكونَ لامَ ابتداءٍ، ويحتملُ أن تكونَ لامَ قَسَمِ، وهو أصوبُ، و{أَكْبَرُ} خبر الابْتِدَاءِ، واختلف في مَعْنَى قَوْلِهِم: {أَمَتَّنَا اثنتين...} الآية، فقال ابن عبَّاس وغَيره: أرادوا مَوْتَةً كَوْنَهُمْ في الأَصْلاَبِ، ثم إحياءَهم في الدنيا، ثم إماتَتَهم الموتَ المعروفَ، ثم إحياءَهم يوم القيَامَةِ، وهي كالتي في سورة البقرة {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا} [البقرة: 28] الآية، وقال السُّدِّيُّ: أرادوا أنه أحيَاهم في الدنيا، ثم أماتهم، ثم أحْياهم في القبر وقتَ السُّؤال، ثم أماتَهم فيه، ثم أحياهم في الحَشْر، قال * ع *: هذا فيه الإحياءُ ثلاثَ مِرَارٍ، والأول أثْبَتُ، وهذه الآية متَّصلةُ المعنى بالتي قَبْلَهَا، وبَعْدَ قولهم: {فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} محذوفٌ يَدُلُّ عليه الظاهِرُ، تقديرهُ. لا إسْعَافَ لِطَلبَتِكُمْ، أو نَحْوَ هذا من الرَّدِّ.

.تفسير الآيات (12- 14):

{ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)}
وقوله تعالى: {ذلكم} يحتملُ أنْ يكونَ إشارةً إلى العذابِ الذي هُمْ فيه، أو إلى مَقْتِهِمْ أنْفُسَهُمْ أو إلى المَنْعِ والزَّجْرِ والإهانةِ.
وقوله تعالى: {ذلكم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ} معناه بحَالَةِ تَوْحِيدٍ ونَفْيٍ لِمَا سِوَاهُ، كَفَرْتُمْ، وإنْ يُشْرَكْ به اللاَّتَ والعزى وغَيْرَهُمَا، صَدَّقْتُمْ، فالحُكْمُ اليومَ بعذابِكم وتخليدِكم في النارِ للَّهِ؛ لا لتلكَ التي كنتم تُشْركُونَها معه في الألوهيَّةَ.
وقوله سبحانه: {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين...} الآية مخاطَبَةٌ للمؤمنِينَ أصْحَابِ نبيِّنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم و{ادعوا} معناه: اعْبُدُوا.

.تفسير الآيات (15- 18):

{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)}
وقوله تعالى: {رَفِيعُ الدرجات} ويحتملُ أنْ يريدَ بالدرجاتِ صفاتِه العلا، وعبَّر بما يَقْرُبُ من أفهامِ السامعينَ، ويحتمل أنْ يريدَ: رفيعُ الدرجاتِ التي يُعْطِيها للمؤمنينَ، ويتفضَّلُ بها على عبادِهِ المُخْلِصِينَ في جَنَّتِهِ، و{العرش} هو الجِسْمُ المخلوقُ الأعْظَمُ الذي السموات السَّبْعُ والكرسيُّ والأَرَضُونَ فيه كالدنانيرِ في الفَلاَةِ من الأَرْضِ.
وقوله تعالى: {يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} قال الضَّحَّاك: الرُّوحُ هنا هُو: الوَحْيُ القُرْآنُ وغيره مما لَمْ يُتْلَ وقال قَتَادَةُ والسُّدِّيُّ: الرُّوحُ: النُّبُوَّة ومكانتُها؛ كما قال تعالى: {رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] وسمى هذا رُوحَاً؛ لأنه تَحْيَا به الأمَم والأزمانُ كما يَحْيَا الجَسَدُ برُوحِهِ، ويحتملُ أَن يكونَ إلقاءُ الرُّوحِ عامًّا لِكُلِّ ما يُنْعِمُ اللَّهُ بِهِ على عبادِهِ المهتَدِينَ في تفهيمه الإيمانَ والمعقولاتِ الشريفةَ، والمُنْذِرُ بيومِ التَّلاقِ على هذا التأويلِ هو اللَّهُ تعالى، قال الزَّجَّاج: الرُّوحُ كُلُّ ما فيهِ حَيَاةُ النَّاسِ، وكُلُّ مُهْتَدٍ حَيٌّ، وكلُّ ضَالٍّ كالمَيتِ.
وقوله: {مِنْ أَمْرِهِ} إنْ جعلته جِنْساً للأمورِ ف {مِنْ} للتَّبعيضِ أو لابتداءِ الغَايَةِ، وإنْ جَعَلْتَ الأمْرَ مِنْ معنى الكلامِ ف {مِنْ} إما لابتداءِ الغايةِ، وإمَّا بمعنى الباءِ، ولا تكونُ للتبعيضِ بَتَّةً، وقرأ الجمهور: {لتنذر} بالتاء على مخاطبةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقرأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وجماعةٌ: {لينذر} بالياء، و{يَوْمَ التلاق} معناه: تلاقِي جميعِ العالمِ بعضِهم بعضاً، وذلك أمرٌ لَمْ يَتَّفِقْ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ.
وقوله: {يَوْمَ هُم بارزون} معناه في بَرَازٍ من الأَرْضِ يَسْمَعُهُمُ الدَّاعِي ويَنْفُدُهُمُ البَصَرُ.
وقوله تعالى: {لِّمَنِ الملك اليوم} رُوِيَ أَنَّ اللَّه تعالى يُقَرِّرُ هذا التقريرَ، ويَسْكُتُ العَالَمُ هَيْبَةً وجَزعاً، فيجيبُ سبحانه هو نفسُهُ بقوله: {للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ}، ثم يُعْلِمُ اللَّهُ تعالى أَهْلَ المَوْقِفِ بأنَّ اليَوْمَ تجزى كُلُّ نفسٍ بما كسبتْ، وَبَاقِي الآيةِ تَكَرَّر مَعْنَاهُ، فانْظُرْهُ في مواضِعه.
ثم أمر اللَّه تعالى نبيَّه عليه السلام بإنْذارِ العَالَمِ وتحذيرِهِمْ مِنْ يومِ القيامةِ وأهوالِه، و{الآزِفَة}: القريبةُ مِنْ أَزِفَ الشيءُ إذا قَرُبَ، و{الأزفة} في الآية: صِفَةٌ لمحذوفٍ قَدْ عُلِمَ واسْتَقَرَّ في النفوس هولُه، والتقديرُ يَوم الساعة الآزفة، أو الطَّامَةُ: الآزفةُ، ونحو هذا.
وقوله سبحانه: {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر} معناه: عندَ الحناجِر، أي قد صَعِدَتْ من شِدَّةِ الهولِ والجزع، والكَاظِمُ الَّذِي يردُّ غيظَهُ وجزعَهُ في صَدْرِهِ، فمعنى الآية: أنهم يَطْمَعُونَ في رَدِّ ما يجدونه في الحناجر، والحال تغالبهم، و{يُطَاعُ} في مَوْضِعِ الصفةِ ل {شَفِيعٍ}؛ لأن التقدير: ولا شفيعٍ مطاعٍ، قال أبو حيان {يُطَاعُ} في مَوْضِعِ صفة ل {شَفِيعٍ}، فيحتملُ أنْ يكونَ في موضعِ خَفْضٍ على اللفظِ، أو في موضِع رفعٍ على الموضِعِ، ثم يحتملُ النَّفيُ أنْ يكونَ مُنْسَحِباً على الوصْفِ فقَطْ، فيكونُ ثَمَّ شَفِيعٌ، ولكنَّه لا يُطَاعُ، ويحتملُ أن يَنْسَحِبَ على الموصوفِ وصفتهِ، أي: لا شفيعَ فيطاعَ، انتهى. وهذا الاحتمالُ الأخير هو الصوابُ، قال * ع *: وهذهِ الآيةُ كُلُّها عندي اعتراضٌ في الكلام بليغٌ.

.تفسير الآيات (19- 20):

{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)}
وقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين} مُتَّصِلٌ بقوله: {سَرِيعُ الحساب} [غافر: 17] وقالتْ فرقة: {يَعْلَمُ} متصلٌ بقوله: {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَئ} [غافر: 16] وهذا قولٌ حسنٌ يقوِّيهِ تَنَاسُبُ المَعْنَيينِ، ويُضَعِّفُه بُعْدُ الآيةِ من الآيةِ وكَثْرَةُ الحائِل، والخائنةُ: مصدرٌ كالخِيَانَةِ، ويحتمل أن تكونَ {خَائِنَةَ} اسمَ فاعِل، أي: يعلم الأعين إذا خانتْ في نظَرِها، قال أبو حَيَّان: والظاهرُ أن: {خَائِنَةَ الأعين} من إضافةِ الصفةِ إلى الموصوفِ، أي: الأَعْيُنِ الخائنة، كقوله: [البسيط]
................. ** وَإنْ سَقَيْتِ كِرَامَ النَّاسِ فاسقينا

أي: الناسَ الكرامَ، وجوَّزُوا أن يكونَ {خَائِنَةَ} مصدراً، ك العافية أي: يعلم خِيانَةَ الأعينِ، انتهى، وهذه الآيةُ عِبَارَةٌ عَن عِلم اللَّهِ تعالى بجميعِ الخفيَّاتِ، فمِنْ ذَلِكَ كَسْرُ الجُفُونِ والغَمْزُ بالعَيْنِ، أو النظرةُ التي تُفْهِمُ معنًى؛ ومنه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابِه في شَأْنِ رَجُلٍ ارتد ثمَّ جَاء لِيُسْلِمَ: «هَلاَّ قَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْكُمْ حِينَ تَلَكَّأْتُ عَنْهُ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ؟ فقالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ أَومَأْتَ إلَيْنَا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ»، وفي بعضِ الكتبِ المنزَّلةِ مِنْ قَولِ اللَّه عزَّ وجلَّ: أَنَا مِرْصَادُ الْهِمَمِ أَنَا العَالِمُ بِمَجَالِ الْفِكْرِ وَكَسْرِ الجُفُونِ، وقال مجاهدٌ: {خائنة الأعين}: مُسَارَقَةُ النظرِ إلى مَا لاَ يَجُوزُ، ثم قَوَّى تعالى هذا الإخبارَ بقولهِ: {وَمَا تُخْفِى الصدور} مما لمْ يَظْهَر على عينٍ ولا غَيْرِهَا، وأسند أبو بكر بن الخَطِيبِ عن مولى أمِّ مَعْبَدٍ الخُزَاعِيَّةِ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: «اللهمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ النِّفَاقِ، وَعَمَلِي مِنَ الرِّيَاءِ، وَلِسَانِي مِنَ الكَذِبِ، وعَيْنِي مِنَ الخِيَانَةِ؛ فإنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُدُورُ»، انتهى. قال القُشَيْرِيُّ في: التحبير وَمَنْ عَلِمَ اطِّلاَعَ الحقِّ تعالى عليه يكونُ مُرَاقِباً لربِّهِ؛ وعلامتُه أنْ يكونَ مُحَاسِباً لِنَفْسِهِ، ومَنْ لم تَصِحَّ محاسبتُهُ، لم تصحَّ مراقبتُهُ، وسُئِلَ بعضُهُمْ عَمَّا يَسْتَعِينُ به العبدُ على حفظِ البصر، فقال: يَسْتَعِينُ عليه بعلمِه أنَّ نظرَ اللَّه إليه سَابِقٌ على نظرِهِ إلى مَا ينظرُ إليه، انتهى.
وقوله سبحانه: {والله يَقْضِى بالحق} أي: يجازي الحسنةَ بعَشْرٍ والسيئةَ بمثلِها، ويُنْصِفُ المظلومَ من الظالمِ؛ إلى غير ذلك من أقضية الحقِّ والعدلِ، والأصْنامُ لا تقضي بشَيْءٍ، ولا تُنَفِّذُ أمراً، و{يَدَّعُونَ} معناه: يَعْبُدُونَ.

.تفسير الآيات (21- 25):

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)}
وقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَسِيروُاْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَاراً في الأرض} الضميرُ في: {يَسِيرُواْ} لكفارِ قُرَيْشٍ، والآثارُ في الأرضِ هي المبانِي والمآثِرُ والصِّيتُ الدُّنْيَوِيُّ، وذُنُوبُهُمْ كانَتْ تكذيبَ الأنبياءِ، والواقي الساترُ المانعُ؛ مأخوذٌ مِن الوِقَايةِ، وباقي الآيةِ بيِّن، وخصَّ تعالى هَامَانَ وقَارُونَ بالذِّكْرِ تَنْبِيهاً على مكانِهِما من الكُفْرِ؛ ولكَوْنِهِمَا أشْهَر رِجَالِ فرعونَ، وقيل: إن قارونَ هذا لَيْسَ بقارون بني إسرائيل، وقيلَ: هو ذلكَ، ولكنَّه كانَ منقطعاً إلى فرعونَ خادماً له مُسْتَغْنِياً معه.
وقوله: {ساحر} أي: في أمْرِ العَصَا، و{كَذَّابٌ} في قوله: إني رسولُ اللَّهِ، ثم أخبرَ تعالى عنهم أنهم لما جَاءَهُمْ موسى بالنبوّة والحقِّ من عند اللَّهِ؛ قال هؤلاءِ الثَّلاثَةُ وأَجْمَعَ رَأْيُهم على أَنْ يُقَتَّلَ أَبْنَاءُ بني إسرائيلَ أَتْبَاعِ موسى، وشُبَّانُهُمْ وَأَهْلُ القُوَّةِ مِنْهُمْ، وأن يُسْتَحْيَا النساءُ لِلْخِدْمَةِ وَالاسْتِرْقَاقِ، وهذا رجوعٌ منهم إلى نحو القتل الأولِ الذي كان قَبْلَ ميلادِ موسى، ولكنَّ هذا الأخيرَ لم تَتِمَّ لهم فيه عزمةٌ، لاَ أعانَهُمُ اللَّه تعالى على شَيْءٍ منه، قال قتادة: هذا قَتَلٌ غيرُ الأولِ الذي كانَ حَذَرَ المولودِ، وسَمَّوْا مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ بني إسرائيلَ أَبْنَاءَ؛ كما تقولُ لأَنْجَادِ القبيلةِ أو المدينةِ وأَهْلِ الظُّهُورِ فِيها: هؤلاءِ أبناءُ فُلاَنَةٍ.
وقوله تعالى: {وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ في ضلال} عبارةٌ وَجِيزَةٌ تُعْطي قوَّتُها أنَّ هؤلاءِ الثلاثةَ لَمْ يُقْدِرْهُمُ اللَّهُ تعالى على قتلِ أحدٍ مِنْ بني إسرائيل، ولاَ نَجَحَتْ لهم فيهم سِعَايَةٌ.